"Beyond the Frame"، فيلم عن السّوريّ تامر العوام وكلّ من عاش أو لم يعش حربًا
في العام 2010، التقيا المخرج المسرحيّ التلفزيونيّ السّوريّ تامر العوام والسّينمائيّ الفلسطينيّ عمر شلش في مدينة "هاللي الألمانيّة، لأول مرة وبعد سوء تفاهم سببته عن غير قصد - زوجة تامر الألمانيّة السّابقة، حين تحدثت معه في إحدى المرات عبر السكايب وهو في سوريا، وأرادت أن تنقل سلام زميلها (عمر) في العمل إلى زوجها، فقالت له: "بسلّم عليك عمر من إسرائيل". عندها، تشاجر تامر مع زوجته، تامر الذي تعرف على زوجته في العام 2010 في دمشق، وانتقلا فيما بعد إلى ألمانيا.
كان تامر العوام ناشطًا سياسيًا أثناء دراسته الجامعيّة، اعتقل على أثر نشاطه مرات عديدة، وحين خرج، كتب رواية بعنوان "ثورة على السكون"، لخص من خلالها تجربته في سجون الأسد، حيث كان خروجه من السجن منوطًا بشرط عدم ممارسة حياته السّياسيّة.
حين التقى بعمر شلش الفلسطينيّ، ابن الجليل، فهم العوام القصّة كلّها، بأن عمر فلسطينيّ، واكتشفا كلاهما كم يشبه بعضهما البعض، فتحدثا عن الثّقافة والفنّ، من موسيقى ومسرحيات وأفلام وغيرها.. وأصبحا صديقين قريبين. وخلال هذه الجلسة، عرض تامر على عمر أن يقوم بتقديم الدور الرئيسيّ في مسرحية "إلى المترجم"، والتي كان يعمل عليها العوام في تلك الفترة. ومنذ تلك اللحظة، بدأت علاقة صداقة قوية، كان فيها العمل المشترك والأحاديث والسهر؛ منها العمل اليوميّ لمونتاج المواد التي كانت تصل تامر من سوريا عبر الإنترنت وإرسالها إلى الإذاعات. بالإضافة إلى تلحين شلش لأغنية "العشق وسواس"، والتي كتب كلماتها تامر وغناها كلاهما سويةً وسجلاها تسجيلًا بيتيًا في برلين، لكنه استشهد قبل أن تُسجل بجودة ستوديو.
وكانت آخر المشاريع المشتركة فيلم "ذكريات على الحاجز" الوثائقيّ، من إخراج العوام وموسيقى تصويريّة لعمر شلش، والذي حصل على جائزة تقدير للمخرج من مهرجان الإسكندرية للفيلم الوثائقيّ. هذه الصداقة التي تستمر اليوم من خلال فيلم "Beyond the Frame"، (الصورة الأخيرة | عن حروب الآخرين) والذي بدأ عمر شلش بالعمل عليه بعد استشهاد تامر العوام في سوريا يوم 9 أيلول 2012.. الفيلم الذي سنروي من خلال هذه التقرير قصّته وقصّة صنّاعه.
بداية الصّداقة: عمل مسرحيّ
على مدار أربع إلى خمس شهور، عمل طاقم مسرحية "إلى المترجم" على مراجعات لدى تامر العوام في بيته بألمانيا، وبالإضافة إلى الدور الرئيسيّ فيها، قام عمر شلش بترجمة النصّ وكذلك عمل على الترجمة العربيّة – الألمانيّة ما بين المخرج وطاقم العمل، وقام بتأليف موسيقى المسرحية.
تروي المسرحية قصّة "الشاب العربيّ الحالم"، الذي يعيش لينام وينام ليحلم. توجد في المسرحية ثلاثة أحلام رئيسيّة تُكمل بعضها البعض، تبدأ بمكان سرديّ سرياليّ وتنتهي على كرسي التعذيب/ التحقيق. تتطرق إلى مفاهيم كالعائلة، الحقيقة، الحرية، والحبّ بين رجل عربيّ وامرأة أجنبيّة.
خلال العمل على المسرحية، كانت قد بدأت الأحداث في سوريا، "ومنذ تلك الفترة، لم يعد تامر شخصًا طبيعيًا"، يقول شلش في حديث خاص. ويضيف: "كنا نجلس في المطبخ نشرب المتّة والقهوة، وفجأة يجهش تامر بالبكاء بعد سماعه لخبر مقتل صديق له، أو يمسك الحاسوب بيده ويضربه بعرض الحائط". كل هذه التّفاصيل أثرت أيضًا على مسار المسرحية ومضمونها الذي تطوّر بفعل الأحداث من جهة، وبفعل ما مرّ به تامر في المعتقل، فتنتهي المسرحية بمونولوغ: "بعد تسعة أشهر سجن وتعذيب أطلقوا سراحي. مشيت بدون عنوان، ضليت ماشي.. ماشي.. شوارع تاخدني وتجيبني لحتى وصلت على الحديقة الكبيرة بدمشق. بعد ما جلست عَ بنك الخشب، إجا بياع القهوة وسألني، تشرب قهوة أو شاي؟ ضليت ساكت. اتطلع بوجهي أكتر وكرر سؤال: ممكن أساعدك؟ تذكرت، من تسعة أشهر مشربتش قهوة. سألت بالفعل هاي الحقيقة؟ عنجد رجعولي حريتي؟".
الزيارة الرابعة
في تلك الفترة انتقل تامر العوام من "هاللي" إلى برلين بالتزامن مع بدايات الثّورة السّورية. وبسبب التعتيم الإعلاميّ، أنشأ العوام شبكة تواصل أثناء تواجده في العاصمة الألمانيّة، لأصدقائه ومعارفه بسوريا، لتوثيق الأحداث من خلال هواتفهم النّقالة كي يرسلونها له، من ثم قام العوام ببيعها للتلفزة الألمانيّة، وبالنقود التي حصل عليها بالمقابل، قام بشراء معدات للتوثيق وأرسلها إلى أصدقائه في سوريا.
لم يقتصر توثيق الأحداث على أصدقائه، بل قام العوام بزيارة سوريا 4 مرات، حيث كان يدخل إليها بالتهريب عن طريق اسطنبول، من ثم إدلب وحلب. الزيارة الرابعة، والأخيرة، كانت برفقة المصوّرة النمساويّة كلاوديا راف، حيث كان يهدف من خلال هذه الزيارة تصوير فيلم وثائقيّ يحمل الاسم "SYRIA INSIDE"، وهو فيلم وثائقيّ روائيّ يروي الأحداث من زاوية أقرب إلى العقل الأوروبيّ، حسب تعبير عمر شلش، ويضيف: "وذلك قبل أن يستوعب تامر ما يُطبخ في العقل الأوروبيّ، ولربما من حظه أنّه لم يعرف، فستكون هذه الحقيقة أسوأ ما حصل لما آمن به في حياته".. لكنه قُتل في زيارته الرابعة، والفيلم أُكمل دونه.
فيلم يُقتَل بطله
كانت زيارة تامر العوام الرابعة إلى سوريا بعد بداية الثورة، هي واحدة من الزيارات التي كان يدخل فيها بلده من "أبوابها الخلفيّة".
يروي لي عمر شلش قصّة "يوم تامر الأخير" في سوريا، حين كان نائمًا في مركز الإعلام في حلب، بالقرب من "جبهة صلاح الدين"، المحور الرئيسيّ للاشتباكات بين "الجيش الحرّ" وجيش النظام. أيقظوهم باكرًا لتفريغ المبنى، وانتقلوا إلى مكان آخر أقرب إلى الجبهة. أثناء مكوثهم في المبنى الثاني، سقطت قذيفة عليه. فور سقوط القذيفة، ضغطت صديقة تامر المصورة على زر "ريكورد"، وبدأت بتوثيق الدخان المتصاعد ومن ثم تلاشي الغبار، والصراخ فور معرفة أنّ القذيفة أصابت تامر. نُقل تامر إلى أقرب مستشفى، وبغياب طبيب مناوب، نُقل إلى مستشفى آخر، الذي قام طاقمه الطبيّ بإجراء عملية جراحية له، فيعيش تامر بعدها ليلة واحدة. دُفن تامر العوام إلى جانب العديد من الشهداء في الشّمال السّوريّ بمقبرة بلا شاهدة، بعيدًا عن أهله في السويداء الذين لم يتمكنوا من رؤيته، وقلائل من يعرفون مكان قبره.
رحلة المواد المصوّرة
بعد استشهاد تامر، في التّاسع من أيلول/ سبتمبر 2012، تركت صديقته سوريا واتجهت إلى تركيا. هناك تم اعتقالها وكانوا قد أخذوا المواد المصوّرة منها، إلا أنها نجحت في نهاية المطاف أن تخرج من تركيا مع المواد المصوّرة. وبعدما وصلت ألمانيا بيومين، حصل عمر شلش على المواد كلّها، الذي اضطر أنّ يقوم بمونتاج 30 دقيقة منها لإرسالها إلى الصحافة.
كان قد علم عمر شلش بخبر مقتل تامر أثناء وجوده في يوم تصوير، كانوا يصورون في ضواحي مدينة "هاللي"، داخل حديقة كبيرة يغمرها الماء. وعمر يقف على ظهر حافلة غير متحركة موجودة داخل الماء، وسط طاقم تصوير كبير وقوارب. فجأة رنّ هاتفه النقال، إذ بزوجة تامر السّابقة على الهاتف تسأله: "هل مات تامر؟"، وأكملت حديثها: "هاتفوني وأخبروني بأنّه استشهد"، فقال لها عمر: "بالتأكيد لا"، حيث جاء تأكيده هذا بعد أن وصلهم مرة خبر استشهاد تامر واتضح بأنه خاطئ. لكن هذه المرة، وبالرغم من أنّه أجاب: "بالتأكيد لا"، إلا أنّ عمر كان خائفًا وشعر بحدوث أمر ما. بعد ما أنهى التصوير، كان أول ما فعله هو فتح الفيسبوك وأول ما جاء أمامه كان مقطع فيديو لتامر أثناء الانعاش في المستشفى، تعرف عمر على وجهه. وبعد خمسة أيام قام بمونتاج المواد التي وثقت مقتله.
800 غيغا بايت من الألم
حصل عمر شلش على كل المواد التي صّوّرت في سوريا من خلال "كلاوديا"، المصوّرة النمساويّة، ومن المنتج الألمانيّ يان هايليج، الذي عمل على إنتاج أفلام تامر العوام الوثائقيّة، حيث وصل حجم المواد المصوّرة إلى 800 غيغا بيات، سواء من كاميرا تامر أو كاميرا كلاوديا.
مشاهدة المواد لم تكن سهلة بالنسبة لعُمر، بالإضافة إلى أن التعامل معها كان صعبًا. ولم يتمكن من رؤيتها بعين موضوعيّة، فقرر عندها عمر أن يضعها في الدُرج، كي ترتاح قليلًا. مع الوقت، بدأ محفز العمل على المواد المصورة يزداد، المحفز الذي ضمّ شعور عمر بالمسؤولية تجاه الصّراع وتجاه سوريا، و"تجاه تامر صديقي"، يقول عمر شلش، ويضيف: "تامر الإنسان الذي أعرفه، الإنسان الذي آمن ببلده وبأنها تستحق مستقبلًا أفضل، بثقافتها وحضارتها، بعيدًا عن نظام البعث وفساده"،، لذا قرر أن يحول هذه المواد إلى فيلم.
بعد فترة، أخرج عمر المواد من الدُرج، وبدأ بالعمل عليها بالرغم من انعدام أي فكرة لدية لبناء الفيلم، حتى ماهية بدايته أو نهايته. مع الوقت، اقتنع عمر بأنّه ليس أفضل شخص للتعامل مع هذه المواد المصورة، خاصة بأنها زادت من تعبه النفسيّ، عندها قرر بأنّ يضم شخصًا بعيد عن الموضوع، ولهذا بدأ بالعمل مع المخرج الألمانيّ روبيرت دوبي، الذي عرف تامر أيضًا وعمل معهما في مسرحية "إلى المترجم".
سويةً، كتبا عمر وروبرت أول "سينوبسس" للفيلم، وقدماه إلى صندوق ألمانيّ يدعم مشاريع سينمائيّة. في تلك المرحلة، وهي المرحلة الأولى، لم يحصل الفيلم على دعم لأنه كان تقريبًا بلا ملامح، حسب تعبير عمر. لكن في نفس الفترة، قدما فكرة الفيلم الأولى أمام جمهور كبير، وخلال هذه الأمسية تعرفا على المنتج الألمانيّ أوفي نادلار، الذي أعجبته فكرة الفيلم وانضم إلى الطاقم لإعادة صياغة وكتابة الفيلم كمجموعة، فخرجت فكرة فيلم Beyond the frame النهائيّة، فيلم لمخرجين لم يكون أحد منهما خلف الكاميرا، لكنه عن من قُتل وهو يوثق. وبعدما أصبحت صورة الفيلم واضحة، أعلن طاقمه حملة تمويل جماهيريّة من خلال موقع indiegogo.
"الصورة الأخيرة | عن حروب الآخرين"
"لن يكمل الفيلم ما بدأه تامر العوام، هذه ليست وظيفة الفيلم"، يقول عمر شلش. ويضيف: "إنما هي علاقتي أنا مع الصّورة التي وصلت إلى ألمانيا من سوريا، الصّورة التي صوّرها تامر. أي الفيلم ينظر إلى المصوّر (تامر) وكاميرته، ويحكي عنهما. وهي فكرة بسيطة، لكنها قابلة للتطبيق على صراعات عديدة وعلى محاور حياتيّة متنوعة". ومن هنا جاءت تسمية الفيلم أيضًا باللغة العربيّة، حيث عنوانه "الصورة الأخيرة | عن حروب الآخرين"، فإنّ عمر شلش هو صديق تامر العوام، وكلاهما جاء من خلفيات وعوالم متشابهة، إنّما هي بالنسبة للغرب بمثابة "حرب الآخرين"، وعلاقته بهذه الحروب، فيقول شلش: "تماماً مثل حرب أفغانستان والعراق، هي حروب الآخرين للغرب، مع أنّها هي من افتعاله هو بشكل رئيسيّ".
من خلال الفيلم، يرغب عمر شلش بالبحث عن ما كان تامر يرغب به، ويضيف: "تلك الرغبة الأولى لمن خرج إلى الشارع وهتف بطهارة: "سلمية.. سلمية"، قبل أن تتعقد الأمور وتتحول إلى لعبة غير مفهومة". ويتابع: "أريد أن أحاول إخراج أبسط التفاصيل من كمّ التعقيد الذي نعيشه في الواقع، سواء لي أو للمشاهد العربيّ أو للمشاهد الغربيّ".
يعتبر عمر أيضًا أن مقولته هذه، أو بحثه هذا، نابع من جانب عاطفيّ بحكم علاقته مع تامر، لكنه يرى أنّ في الفيلم محوراً إضافيّاً، يتجسد بوجود روبرت، المخرج الألمانيّ، وهو المحور الأقرب إلى العقلانيّة والعلميّة، حيث يضم الفيلم حوارات مع خبراء وأطباء نفسيّين، تتمحور حول الأسئلة: ما هي الحرب؟ وكيف تؤثر الحرب على الناس والمجتمعات؟ وما هي لعبتها الأعلاميّة والنفسيّة؟"، بالإضافة إلى حوارات مع أشخاص عرفوا تامر العوام عن قرب. هو بالتأكيد فيلم عن تامر العوام، لكنه فيلم يضم تحت أجنحته الفكرة الأكبر، عن هذا يضيف عمر: "جزء كبير منا عاش حروباً، والجزء الأكبر لم يعشها، لكن لدينا آراؤنا وتصورنا عنها، وهذا مرتبط بالجانب الإعلاميّ للحروب، والذي هو أكثر ما يؤثر علينا.. وهذا ما يتطرق إليه الفيلم".
حين سألوا عمر شلش في مدينة "دريسدن" الألمانيّة: "من هو جمهور الفيلم؟"، أجابه: "كل من عاش الحرب أو لم يعشها".
لدعم الفيلم، انقر/ي على الرابط التالي:
https://www.indiegogo.com/projects/beyond-the-frame-zwischen-berlin-und-aleppo#/story